بحث هذه المدونة الإلكترونية

المتابعون

السبت، 19 جانفي 2013

خمسون عاما

خمسون عاما، ذلك عمر الجزائر "المستقلة". استقلال جاء على إثر ثورة مسلحة أعلنها مجموعة من شباب الجزائر الوطنيين الشجعان لكي تتحرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي الذي دام مئة وإثنين وثلاثون عاما وتقيم جمهورية جزائرية ديمقراطية شعبية في إطار المبادئ الإسلامية وتعيد بذلك الجزائر إلى محيطها الحضاري العربي-الإسلامي، حسب بيان أول نوفمبر 1954. البيان الذي أقره الجزائريون وجاهدوا وضحوا بمليون ونصف المليون من الشهداء من أجل تحقيق أهدافه. ناهيك عن ملايين أخرى قضت جهاداً، قتلاً، مرضاً وجوعاً منذ بداية الاستدمار الفرنسي لأرض الجزائر عام 1830. استقلت الجزائر يوم 5 جويلية 1962، خرجت القوات الفرنسية وصار رئيس الجزائر إسمه أحمد بدل الأسماء الفرنسية التي تعاقبت على حكم الجزائر، باعتبارها محافظة "فرنسية". لكن الجمهورية لم تقم ولا الديمقراطية اتُخذت طريقا لاختيار الحكام ولا كان للشعب أيّ دور حقيقي في اختيار أيّاً من رؤساء الجزائر أو غيرهم الذين من المفروض انتخابهم. أما وضع الكل في إطار المبادئ الإسلامية والعودة بالجزائر إلى طبيعتها العربية الإسلامية فذلك لم يحدث إلا سطحيا، على مستوى الدولة والمجتمع معاً وحين طالب البعض بتصحيح الأمور والمحافظة على عهد نوفمبر، فُتحت لهم السجون وأُعيدت ممارسة الكهرباء و"الشيفون" (الإيهام بالغرق) وغيرها من ألوان التعذيب الهمجية عليهم كما مورست على آبائهم من قبل ولكن هذه المرة على أيدي أبناء جلدتهم. ثم إن أكبر مصائب الجزائر حدثت بسبب مطالبة الشعب بتحقيق مطالبه التاريخية واختيار ممثليه حين فُتح المجال السياسي لفترة وجيزة عقب مظاهرات 5 أكتوبر 1988. هذا كله تاريخ بالنسبة إليَّ وإلى أقراني من الشباب الجزائري اليوم. تربى جيلنا الذي أمضى طفولته ومراهقته وهو يرى أهله وأبناء بلده يتقاتلون بهمجية يستحي لها شبيحة الأسد ومرتزقة القذافي. كان أولياؤنا ينهوننا عن الخوض في السياسة والتكلم في أخبار وطننا المؤلمة. كبرنا ونحن غير مهتمين بالسياسة ولا رأي لنا في مستقبل بلدٍ قيل لنا بأن أجدادنا ضحّوا وصنعوا الملاحم لكي نعيش فيه أحراراً. حرص أولياؤنا على أن نهتم بالدراسة لأنها هي سلاكنا الوحيد حسبهم. مرت الأيام والسنين وألفنا القتل، حتى صار الموت لا يخيفنا، ثم فجأة قلّ الموت وجاء لنا أصحاب القرار برجل لا نعرفه، بدا طيباً في الأول، إلا أنه لم يبطئ علينا وكشف لنا عن حبه للكرسي وعدم احترامه للدستور واعتماده على الولاء بدل الكفاءة ومواءمة المجرمين ومداهنتهم، بل وحتى عقد الصفقات معهم. قيل لنا هذه المرة بأنه تجب علينا المصالحة من أجل الجزائر، ثم عَفَوْا عمن عفوا وأملَوْا على "صحافتنا" و"نخبتنا" موجزاً عمّا حدث وأعلنوا عن "الأبطال" المقدّسين الذين "أنقذوا" الجمهورية وعن "الإرهابيين" الذين عاثوا في الأرض فسادا و"لطخوا" صورة الإسلام ونقاوته. قالوا لنا: اطووا الصفحة وانسوا موتاكم وعذاباتكم. لم نبالي بشيء وهممنا بالجري وراء تحقيق قوتنا وضمان مستقبلنا، لكن الأيام أظهرت لنا بأن ذلك كذلك مستحيل في بلادنا. أصحاب القرار حققوا فعلا دولة بينهم وتركوا لنا الجغرافية التي لم ترقى لذوقهم -بعد- لكي نتحارب فيها من أجل الفتات. لا أخلاقنا نفعتنا ولا شهاداتنا العلمية. ماذا نفعل؟ الجبال موجودة والبحر موجود والشارع موجود. مات منا الكثير، تغرب منا الكثير، ضاع منا الكثير ومن بقيَ منا اليوم وهم كثر (والحمد لله) يحاولون تحقيق البقاء بالعيش عكس طموحاتنا والرضوخ لواقع غاب عنه العدل، أحلّت فيه الرشوة وفُرضت فيه الوساطة والمحسوبية. جاءت الثورات العربية وتحرّكت في صدورنا مشاعر الجهاد (نرفض أن نُمنع من استعمال مصطلحاتنا لأن غيرنا لا تعجبهم) والعزيمة، إلاّ أننا تراجعنا حتى نترك الأرض تجِّفُ من دماء ما يقارب ربع مليون شهيد سقطوا في العشرية المدمرة غدراً في مجملهم، بسبب قرارٍ اتخذته عصابةٌ أثبت الواقع بأنها فشلت فشلا ذريعا في إقامة الجمهورية، دع عنك زعمها حمايتها وإنقاذها. عصابة تأكد كل من له عينين بأنه لا هدف لديها سوى خدمة مصالحها الضيقة. ثم لقد شهد التاريخ على عدد كبير من أعضاءها وهم معروفون لدى الشعب الجزائري بخيانتهم وعمالتهم للمستعمر أثناء الثورة وبعدها ومحاربتهم لأيّ محاولة لتحقيق أهداف بيان أول نوفمبر، هذا دون الخوض في جرائمهم الشيطانية لاحقا في التسعينات والألفينات. قد يأتي البعض ويرد علينا ماذا عن النجاحات التي حققها النظام على مستوى التعليم والبناء والتشييد وتمثيل الجزائر في المحافل الدولية؟ نقول بأننا لا ننكر الخطوات المهمة التي قطعتها بلادنا فيما يخص العدالة الاجتماعية، مقارنة بحال أسلافنا في ظل الإستعمار المقيت. كما أننا لا نؤمن بأن الاستعمار أفضل من حكم حزبه ولو تفوه بعضنا بذلك أحيانا في ضعف وعن غضب. ثم إننا لا ننكر تحقيق مشاريع كثيرة ناجحة نسبياً ولكن الفضل يعود في الحقيقة للنفط والغاز اللذان تكرم الله علينا بهما. ليس لأحد أن يتداعى ويتفاخر بشيء لو نظرنا إلى مدى غناء بلدنا بشعبه وخيراته وموقعه ومدى تخلفه مقارنة بدول أقلّ مالا ونفراً. ثم لا يمكننا أبدا أن ننسى الرجال والنساء المخلصين الوطنيين الصادقين في خدمة الجزائر والجزائريين، الذين شربوا الحنظل وعملوا في أجهزة هذا النظام وحاولوا قدر جهدهم أن يحققوا للجزائر خيراً في غفلةٍ عن أتباع حزب فرنسا. هذا كله، ثم ماذا؟ هو السؤال الذي يطرحه البعض: ماذا أنتم فاعلون؟ نحن اليوم، نبحث عن الحقيقة التي أبت جمهورية الصمت أن تأتينا بها. نحن اليوم، نقرأ تاريخنا ونحققه. نحن اليوم، نحاول بناء المجتمع الذي دُمر. نحن اليوم، جعلنا هدفا لنا، وهو تحقيق أهداف بيان أول نوفمبر كاملة وعلى رأسها إقامة دولة العدل المسؤولة، والتي يمتاز مواطنوها بحرية حقيقية في اختيار ممثليهم. هي دولة، نريد أن تمثل هويتنا (الإسلام، العروبة، الأمازيغية). نريد أن ترد الحقوق إلى ذويها. نريد أن يُنصف المظلوم، أن يلقي المفتون السلاح وأن يعود المغترب. نريد أن ينجح المتعلم، أن يسترزق العامل، أن يأكل الجائع وأن يلبس العريان.
أيا أبناء سيدي بوزيد، أيا أبناء ميدان التحرير، أيا أبناء بن غازي، أيا أبناء صنعاء، أيا أبناء درعا، أيا أبناء القدس، أيا أبناء العروبة والإسلام... أبناء الجزائر على خطاكم ولكنهم حسب ظروفهم أيضاً. ستسمعون منا بإذن الله ما يسرّكم. القضية ليست قضية خبز ولا قضية عمل، القضية أكبر وأجلّ، القضية قضية أمّة قررت بأن تمنح قيادتها لشبابها الذين يؤمنون بها، الذين يفتخرون بأمجادها ولديهم نظرة لمستقبلها. في الأخير، لا تنسوا إخواني وأخواتي أن الهدف هو أن ينطلق الواحد منا من تيطوان إلى بغداد (لا بد من الوقوف بالقدس) دون تأشيرة من أحد ودون إهانة من أحد. أرجوا أننا تعلمنا مما رأينا في عصرنا هذا بأن السبيل للتغير ورد الظلم هو العدة والاستعداد وليس التهور والجنون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق